المبحث الثاني: توافر الحيدة والاستقلال في المحكم

الباب الثالث: هيئة التحكيم

الدرس الثاني: شروط صلاحية المُحكم
المبحث الثاني: توافر الحيدة، والاستقلال في المحكم

ضمانات الخصوم في مواجهة المحكم:

حرصت التشريعات المختلفة، ومن بينها قانون التحكيم المصري، وكذلك لوائح، ومراكز، ومؤسسات، وغرف التحكيم الدولية على تنظيم العديد من الضمانات للخصم في مواجهة محكميهم في محاولة لضمان توفير حد أدنى من حيادهم، واستقلالهم عن طرفي النزاع الذين اختاروهم، ودفعوا رواتبهم حتى يثمر التحكيم، ويكشف عن الحقيقة المجردة من أي ميل، أو هوى لصالح هذا الخصم، أو ذاك.

بل أن من الضمانات ما لا يحتاج إلى نص يقررها، أو اتفاق الخصوم على إلزام محكميهم بها، أو عدم اتفاقهم على ذلك، أيًا كان نوع التحكيم؛ لأنها تفرض نفسها بحكم البديهة باعتبارها مفترض ضروري لإقامة العدالة يؤدي إغفالها، وعدم مراعاتها إلى بطلان حكم التحكيم كعدم المساواة بين الخصوم، وعدم احترام حقوق الدفاع.

ولكن نوهت معظم التشريعات القانونية على حيدة، واستقلال المحكم.

إفصاح المحكم عما يثير أي شكوك حول استقلاله، أو حيدته.

تنص الفقرة الثالثة من المادة (16) من قانون التحكيم المصري على أن:

"يكون قبول المحكم القيام بمهمته كتابةً، ويجب عليه أن يفصح عند قبوله عن أي ظروف من شأنها إثارة شكوك حول استقلاليته، أو حيدته".

وقد أكدت هذا المعنى المادة (9) من لائحة مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم.

كما نصت المادة (9) من قواعد اليونسترال:

"يجب على من يرشح ليكون محكمًا أن يصرح لمن يتصل به في أمر هذا الترشيح بكل لظروف التي من شأنها احتمال إثارة شكوك لها ما يبررها حول حياده أو استقلاله، وعلى المحكم بعد تعيينه، أو اختياره التصريح بمثل هذه الظروف لطرفي النزاع إلا إذا كان قد سبق أن أحاطهما علمًا بها".

وأيضًا أكدت على نفس المعنى المادة (19) م لائحة جمعية المحكمين الأمريكية.

كما أكدت المادة (12/1) القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي على أنه:

"على الشخص حين يفاتح بقصد احتمال تعيينه محكمًا أن يصرح بكل الظروف التي من شأنها أن تثير شكوكًا لها ما يبررها حول حيدته، واستقلاله، وعلى المحكم منذ تعيينه، وطوال إجراءات التحكيم أن يفضي بلا إبطاء إلى طرفي النزاع بوجود أي ظروف من هذا القبيل، لا إذا كان قد سبق له أن أحاطهما علمًا بها".

أما عن المادة (10) من لائحة محكمة لندن للتحكيم:

نجد أنها تخول المحكمة الحق في رفض تعيين المحكمين الذين اختارهم أطراف النزاع إذا قدرت أنه لا يتوافر فيهم الحيدة، والاستقلال.

بينما تشددت لائحة مركز التحكيم بواشنطن بعد تعديلها في 10 إبريل 2006م؛ فنصت الفقرة الثانية من المادة السادسة منها على أن يقوم كل محكم قبل، أو خلال أول جلسة من جلسات المحاكمة بتوقيع تعهد بالصيغة التالية:

" أتعهد بأنه وفقًا لما لدي من معلومات لا يوجد أي سبب يمنعني من المشاركة في الهيئة التحكيمية المشكلة بواسطة مركز فض منازعات الاستثمار، وذلك في النزاع الماثل بين .... و ....".

وجوب توافر الحيدة والاستقلال:

الطبيعة القضائية الخاصة لعمل المُحكم تتضح تمامًا في اشتراط كل القوانين التحكيمية المحلية منها والمؤسسية، وأيضًا الاتفاقيات الدولية على وجوب توافر الطبيعة الموضوعية للمحكم في أداء عمله، أي أنه لا يتأثر بأي عامل إلا عامل طبيعة النزاع، ثم تطبيق القانون الموضوعي عليه.

المُحكم مثل القاضي:

 فالتحكيم هو إعمال لقانون موضوعي إجرائي على موضوع خاص، أو منازعة منفردة مثله مثل القضاء.

فهو مستقل عن الأطراف، محايد من وجهة رأيه، مُلزم فقط بتطبيق قانون المنازعة، وإعماله.

أهميته توافر شرطي الحيدة، والاستقلال. . . تتمثل في الحفاظ على سمعة، ومصداقية هيئة التحكيم.

تحقيق اطمئنان المحتكمين إلى أن الأحكام التي تصدر عن المحكمين هي أقرب ما تكون إلى العدالة([1])

وقضت محكمة النقض المصرية بأن:

"المُحكم ليس طرفًا في خصومة التحكيم، وإنما هو شخص يتمتع بثقة الخصوم، واتجهت إرادتهم إلى منحه سلطة الفصل فيما شجر بينهم، بحكم شأنه شأن أحكام القضاء، يحوز حجية الشيء المحكوم به بمجرد صدوره، ومن ثم لا يتصور أن يكون خصمًا، وحكمًا في ذات الوقت.

(الطعن رقم 1533 لسنة 570ق جلسة 4/7/1991)

تعريف الاستقلال وتطبيقاته

الاستقلال هو الجانب المادي من جوانب الطبيعة الموضوعية للمحكم في أداء عمله، أي أنه موضوعي في تطبيق القانون، أو ملتزم فقط بموضوع المنازعة، وقانونها الواجب النفاذ.

معنى الاستقلال:

ويعني بالمعنى الواسع عدم تبعية المحكم؛ لأي من طرفي النزاع حتى لا يتوجه في عمله بتوجيهات أي منهما.

الحياد:

ويعني عدم الميل، أو الحكم بالهوى لصالح أيهما.

وعليه؛ فإنه لا يكفي في هذا الصدد استقلال المحكم عمن اختاره، وإنما يتعين أيضًا استقلاله عن الطرف الآخر الذي لم يختاره وعدم وجود أي صلة سابقة، أو حالية بأي منهما من شأنها أن تؤثر على استقلاله، أو حياده، وكذلك عدم وجود صلة بينه وبين أقارب أيهما، أو ممثلي الطرفين، وعدم سبق اتصاله بموضوع النزاع المطروح على التحكيم، كما إذا سبق أن قدم استشارة، أو فتوى متعلقة به، وعدم وجود مصلحة له مالية، أو أدبية تتعلق بالنزاع المطروح على التحكيم؛ لأن من شأن أي صلة من هذا النوع إثارة الشكوك حول استقلال المحكم وحياده الأمر الذي يعصف بالثقة في حكم التحكيم، ويفقده مصداقيته كأداة ميسرة ناجحة لحسم المنازعات التجارية خاصة الدولية منها.

كذلك يتعين على المحكم أن يفصح عن رابطة العمل التي كانت تربطه بأحد الطرفين، وإن كان ذلك في رأي الدكتور أكثم أنه لا أثر له على استقلال المحكم طالما أن رابطة العمل انتهت، وإلا ترتب على ذلك حرج ومشقة، وإنما على المحكم الإفصاح عن ذلك حتى لا يتخذ كتمانه لهذه العلاقة القديمة قرينه ضده.

وتأكيدًا لحياد المحكم بالمعنى الواسع تتطلب لائحة غرفة التجارة الدولية بباريس أن يراعى عند تعيين المحكم المنفرد، أو رئيس هيئة التحكيم أن يكون من جنسية مختلفة عن جنسيات الأطراف (م 9/5)، وكذلك أيضًا لائحة محكمة لندن للتحكيم، والجمعية الأمريكية للتحكيم، واتفاقية واشنطن بشأن تسوية المنازعات الناشئة عن الاستثمار (م 38)، وقواعد اليونسترال (م 6/4)، وقواعد القانون النموذجي للتحكيم (م 11/5).

وذلك حتى لا ينتصر المحكم لبني جنسه، أو يميل إليه دون أن يتعمد ذلك بحكم الإنتماء.

وعدم وجود صلة للمحكم، أو مصلحة بموضوع النزاع، أو ارتباط بأحد الأطراف، أو ممثليهم

فالمُحكم لا يجوز أن يكون طرفًا في النزاع، أو له مصلحة فيه على أي وجه، ويجب أن يستمر استقلاله حتى صدور الحكم.

مظاهر استقلال المُحكم

عدم وجود روابط مالية، أو علاقات مهنية، أو اجتماعية سابقة، أو حالية تربطه بالخصوم.

فثقة الأطراف في المُحكم تدفعهم إلى التعاون معه، والرضاء بحكمه، وتنفيذه اختيارًا.

تعريف الحيدة:

الحيدة هي الجانب المعنوي لموضوعية المُحكم في أداء مهمته التحكيمية

 فهي تعني وقوفه على جانب متساوي أي في منتصف المسافة بين دفوع وجوانب كلًا من طرفي المنازعة أي أنه لا تأثر فكريًا، أو معنويًا بما قدماه من دفوع

وفى أشهر تطبيقات تأكيد حيدة المُحكم ما نص عليه القانون النموذجي للتحكيم يونسترال: المادة الحادية عشر الفقرة الخامسة

من أفضلية تعيين المحكمين، أو على الأقل المُحكم المرجح (رئيس هيئه التحكيم) من جنسية مغايرة لجنسية أطراف المنازعة

وفى حالة تعيين محكم فرد، أو محكم ثالث يتعين أن نأخذ في الاعتبار تعيين محكم من جنسية غير جنسية الطرفين ([2]).

الفرق بين الاستقلال والحيدة

الفروق بين الحيدة، والاستقلال من منظور المهمة التحكيمية:

الاستقلال

 شرط لتعيين المحكّم، ولاستمراره في نظر النزاع، وحتى إصدار الحكم، أي أن الاستقلال شرط لصحة تعيين المحكم.

فالمُحكم ملزم بأن يبقى على استقلاله أثناء سير الإجراءات، وحتى صدور الحكم، وذلك بعدم الدخول في أية علاقات تؤثر على استقلاله.

الحيدة

 هي شرط لصحة أداء عمل المحكم؛ فالاستقلال سابق على أداء المهمة، والحيدة واجبة أثناء أدائها

فاستقلال المُحكم شرطًا لاختياره، والحياد التزامًا على عاتقه، وشرطًا لصحة الحكم

يجب التمسك بعدم الحيدة، أو عدم الاستقلال، والدفع بها أمام محكمة الموضوع، وفي حالة عدم الدفع بها فإن المحكمة تكون غير ملزمة بفحصها من تلقاء نفسها؛ لأنها هنا لا تفترض سوء النية في الخصوم من تلقاء نفسها.



(1)موسى فهد الاعرج , مقالات في القانون: استقلال المحكم وحيدته (مقال على الويب: http://moaraj. net/researches/002. html)

(1) الامم المتحدة. لجنة الامم المتحدة للقانون التجاري الدولي, وثيقة الامم المتحدة 17/40أ, المرفق الاول:القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي (نيويورك: الامم المتحده,1985):المادة 11 الفقرة الخامسة