المبحث السادس: في الفلسفة والمنهج

المبحث السادس: في الفلسفة والمنهج

  ما زال العلم محور حديثنا فلسفة ومنهجاً، وإذا كنا نسلم بداية أن نزعم امتلاك ناصية الحق أو الحقيقة المطلقة، فإن علينا أن نؤكد أيضا هذا القول على العلم والفلسفة بصفة عامة، ويمكن أن ينسحب أيضا على ادوات ومناهج كل منهما. وإن اتخذنا مناهج العلوم أو علم المناهج مجالا لتطبيق هذه المقولة، وجدنا أن هذا العلم يدرس المناهج وارتباطها بالعلوم المختلفة من جهة، كما يدرس للسبل التي يسلكها العلماء بهدف الاقتراب من اليقين في ميدان تخصصهم، وقد زعم العلماء أن علم المناهج قد تكون على أيديهم داخل المعامل، بحجة أنهم لم يدخلوا إلى معاملهم مزودين بقواعد عامة يؤدي اتباعها إلى الكشف عن الحقائق، وإنما كان محل ذلك هو الاتصال بالوقائع وممارسة التجارب المعملية، ويضيفون إلى حجتهم السابقة القول بأنه ينبغي على العلم في مرحلة تكوينه ألا يسبقه مذهب فلسفي يخضع له العالم في إجراء بحوثه وبناء على ما تقدم رأى أغلب العلماء أنه ليس من المنطقي أن يفرض قواعد بعينها على العالم المتخصص.

 وينبئنا الواقع العلمي بما يخالف هذا الزعم، حيث إن العالم المتخصص في نطاق محدود لا يستطيع أن يتبين العلاقات والروابط التي تنشأ بين النطاقات المختلفة للعلم وما ينشأ من تشابك بين المناهج المختلفة وتداخلها عند دراسة موضوع واحد، وهنا يبرز دور عالم المنطق عندما يحاول أن يضع صورة عامة للمناهج التي يتبعها العقل الإنساني عند بحثه عن الحقيقة العلمية(20)، فهو وحده القادر على الإلمام بمختلف ميادين العلم في نظرة واحدة شاملة تهيئ له أن يدرك الملامح العامة والخصائص الكلية المشتركة بين المناهج المتبعة في فروع العلم المتعددة(21).

  وفي رأي البعض وهذا ما نميل إليه، أن الأقرب إلى الصواب فيما يتعلق بنشأة علم المناهج وتطوره، أن الأمر يبدأ عندما يقدم لنا العالم المتخصص تقريراً مفصلاً عن الخطوات التي اجتازها عند إعداده بحثاً في نطاق تخصصه، ثم يأتي عالم يتسم بسعة في الأفق وشمول في المعلومات ليحاول أن يحدد لنا الإطار المنهجي الذي اتبعه الباحث المتخصص، وموضع هذا الإطار من المناهج المعروفة، ويأتي دور عالم المنطق في نهاية الأمر ليصنف المناهج المتاحة أمامه، بحثاً عن العلاقة بينها والخصائص العقلية للإنسان، مع صياغة النتائج العلمية التي سبق أن توصل إليها العلماء في إطار مذهبي للبحث عن الحقيقة، ومعنى ذلك أن الفلاسفة بصفة عامة والمناطقة بوجه خاص لا ينتقدون الإجراءات التي قام بها العلماء بصدد الكشف عن قوانين ونظريات، فتلك حلبة العلماء دون منازع، وإنما يتناولون المناهج التي التزم بها العلماء والتصورات والمصادرات في مسيرتهم نحو كشف العلاقة بين الوقائع والقوانين والنظريات. إن المنطقي يصوغ قواعد ويقدم توجيهات عامة يدور معظمها حول شروط سلامة الاستنتاج للاهتداء بها أثناء البحث العلمي.

  أما الدور الأهم لفيلسوف العلم أو لعالم المناهج أو للمنطقي، فهو أن يناقش الفروض التي تقوم عليها العلوم المختلفة ويوازن بينها ويضعها موضع الفحص والاختبار، مستنداً في ذلك إلى إلمام كافٍ بالعلوم التي يوازن بينها، وقدرة كافية على تحقيق ما تثيره هذه العلوم من إشكالات ومحاولة وضع حلول لها. ويكشف أحد الأساتذة(22)، عن أهمية تدخل فيلسوف العلم بقوله: … ذلك أن مشكلات الأسس والمسلمات والفروض التي تعتمد عليها هذه العلوم والمناهج التي نسير عليها، لا يمكن معالجتها بهذه المناهج نفسها، وإلا وقعنا في الدور: فمشكلة تطبيق منهج معين لا يمكن مناقشتها عن طريق هذا المنهج بنفسه، إذ يستحيل مثلاً أن نبرهن على خلو نسق منطقي ورياضي من التناقض بوسائل هذا النسق نفسه… كما يستحيل بغير نظرية فلسفية أن نميز مناهج المستويات اللغوية المختلفة في علم الدلالات والمعاني، كأن نطبق المنهج على موضوعات علمية ثم نطبقه على المناهج نفسها في مستوى أعلى، وهذا يؤكد ما سبق قوله من أن العلماء لا يمكنهم في مسائل الأسس والمناهج أن يستغنوا عن النقد الفلسفي .

  وحقيقة الأمر أن لا غنى للعلماء عن الفلاسفة، ولا غنى للفلاسفة عن العلماء، وقد برزت هذه الحقيقة مع نشأة جيل من العلماء وفلاسفة العلم المعاصرين يجمع بين خبرة العلماء ومنطق الفلاسفة ومنهم: أينشتين ورسل وكارل بوبر وغيرهم.

  أما الصورة العامة لمنهج العلم فلم تعد تتسم بالاستقرار أو الثبات، كما كان يعتقد في السابق، ذلك لأن المعرفة العلمية نامية بطبيعتها ومتطورة، ومن ثم فإن أدوات تحصيل هذه المعرفة من أدوات ومناهج يطرأ عليها تحسين وتعديل بين حين وآخر. وننقل رأي هانز رشنباخ في كتابه نشأة الفلسفة العلمية عن عبد الغفار مكاوي، حيث يقول موضحاً هذه النقطة الهامة، والواقع، صورة المنهج العلمي كما ترسمها الفلسفة العلمية الحديثة مختلفة كل الاختلاف عن المفاهيم التقليدية العقلية والمثالية “، فقد اختفى المثل الأعلى لعالم يخضع مساره لقواعد دقيقة، أو لكون متحدد مقدماً، يدور كما تدور الساعة المضبوطة، واختفى المثل الأعلى للعالم الذي يعرف الطبقة المطلقة، واتضح أن أحداث الطبيعة أشبه برمي الزهر ومنها دوران النجوم في أفلاكها، فهي خاضعة للقوانين الاحتمالية، لا العلمية، أما العالم فهو أشبه بالمقامر منه بالنبي، فهو لا يستطيع أن ينبئك إلا بأفضل ترجيحاته، ولكنه لا يعرف مقدماً أبداً إن كانت هذه الترجيحات ستتحقق، ولكنه مع ذلك أفضل من ذلك الذي يجلس أمام المائدة الخضراء، لأن مناهجه الإحصائية أفضل، والهدف الذي يسعى إليه أسمى بكثير، وهو التنبؤ برميات الزهر الكونية، فإذا ما سئل عن أسباب اتباعه لمناهجه، وعن الأساس الذي يبني تنبؤاته عليه، لا يكن في وسعه أن يجيب بأن لديه معرفة بالمستقبل تتصف باليقين المطلق، بل إنه يستطيع فقط أن يقدم أفضل ترجيحاته، ولكن في وسعه أن يثبت أن هذه بالفعل هي أفضل الترجيحات، وأن القول بها أفضل ما يمكن عمله، وإذا كان المرء يعمل أفضل ما يمكن عمله، فهل يستطيع أحد أن يطلب منه المزيد ؟ (23).

 رغم أن للفلسفة هذا التأثير المباشر في تطور ونمو المعرفة العلمية، إلا أن هناك من ينظر إلى الحقيقة العلمية مستقلة عن الحقيقة الفلسفية، وهناك من يجعل إحداهما أساس عمل الثانية، وهناك ثالثاً من يزاوج بين الحقيقتين بوصفهم نتاجاً طبيعياً لعقل الإنسان، فلنستعرض هذه الاتجاهات.

[1]) انظر: د: قاسم محمد محمد: مرجع سابق: ص، 92-93.

[2]) انظر: د. عبد الرحمن بدوي: منهجية البحث العلمي، ص، 10.

[3]) انظر: د/عبدالغفار مكاوي: علم الفلسفة، ص، 103.

[4]) انظر: د. عبود عبدالله العسكري: منهجية البحث العلمي في العلوم القانونية، ص، 10.

 قد اعتاد بعض الباحثين، أو بعض طلاب العلم في المراحل الجامعية الأولى، على عدم التفريق بين المصدر والمرجع، أو المصدر الرئيس والمصدر الثانوي، ففي اللغة: المصدر هو: المنهج أو الأصل، وهو مشتق من الصدر، أو الصدارة في كل شيء. أي: تعني الأهمية والموقع المتقدم.

 وفي نطاق هذا الفصل يجدر بنا أن نبين كيفية الرجوع إلى المراجع والمصادر للحصول عليها من المعلومات والبيانات وضوابط هذا الرجوع وذلك كما يلي:

 تتبدى أهمية تجميع المعلومات والبيانات وتدوينها في أنها تعطي الباحث المادة الخام التي سوف يصنع منها بحثه. وبقدر وفرة المعلومات والبيانات وتغطيتها لكل جوانب الرسالة بقدر ما يسهل على الباحث إتمام بحثه بصورة جيدة.

 ولما كانت كيفية الرجوع إلى هذه المراجع يرتبط أساساَ بنوع هذه المراجع. فإنه يجدر بنا بيان هذه الأنواع. وبعد ذلك نبين كيفية تدوين هذه المعلومات. وذلك كما يلي:

 تأتي أدوات البحث العلمي في مرحلة لاحقة لتحديد موضوعه، ووضع خطة مبدئية لموضوع البحث؛ وفقاً للقواعد والأسس التي سبق وحددناها. وأدوات البحث العلمي هي مفترض ثابت في كل الأبحاث. فمن الصعوبة بمكان القيام ببحث علمي دون وجود هذه الأدوات. وإذا كانت أدوات البحث متوافرة لكل الباحثين فإن قدرة الباحثين على استخدام هذه الأدوات تتفاوت بتفاوت إمكانياتهم وقدراتهم على الفهم والتمحيص. ذلك أن البحث العلمي هو في حقيقته مهنة أو حرفة أو مهارة وليس وظيفة. ويبقى إجادة الباحث لمفردات هذه المهنة مرتبطا إلى حد كبير بقدراته الشخصية وسعة اطلاعه وقدرته على الترتيب والتنظيم، وتحليل المعلومات التي يحصل عليها.

 وسوف نتناول أدوات البحث العلمي وفق ترتيب العمليات التي يقوم بها الباحث في استخدام هذه الأدوات. فهذا الاستخدام يبدأ بتحديد المراجع المتصلة بموضوع البحث. ثم يقوم بتجميع المعلومات التي تتصل بموضوعه من هذه المراجع. وأخيراً يقوم بترتيب هذه المعلومات وتدوينها وفق اسس علمية محددة توطئة للاستفادة بها.

 وترتيباً على ذلك فسوف نقسم الفصل إلى ثلاثة مباحث كما يلي:

المبحث الأول: تحديد المراجع المتصلة بموضوع البحث.

المبحث الثاني: تجميع المعلومات.

وذلك على الوجه التالي:

سبق أن علمنا أن الخطوة الأولى في البحث تتضمن تحديد موضوع البحث، ووضع خطة مبدئية له. يعقب ذلك تحديد المراجع التي تتصل بموضوع البحث. وإذا كان الباحث أثناء اختيار موضوع البحث ووضع خطة مبدئية له يطلع على بعض هذه المراجع بصورة سريعة، فإن الخطوة التي نحن بصدد بحثها تختلف تماماً عن ذلك، فهذه الخطوة تتضمن حصر وتحديد المراجع المتصلة بالبحث.

وهي مرحلة تتسم بالدقة والصعوبة، إذ تقتضي من الباحث أن يطلع على مراجع شتى وفي أماكن كثيرة. وعليه أن ينقب فيها ويبحث عما يفيده من هذه المراجع في موضوع بحثه.

وتهدف المراجع إلى توفير المعلومات والبيانات التي سوف يستخدمها الباحث في صناعة بحثه. فهي المواد الأولية التي سوف يواجه بها موضوع البحث. وهى مصادر معلوماته وبياناته. وعلى ذلك فإنه بقدر هذه المصادر والمعلومات التي تأتي منها ما يأتي البحث منضبطاً وسليماً في أساسه العلمي وفروضه، وما يرتبه من نتائج([1]).

ومراجع البحث ومصادره ومعلوماته متعددة. إلا أنها تتكاتف لتأدية وظيفة واحدة. وهي توفير المعلومات والبيانات للباحث. ولذلك يستطيع الباحث ومعه الأستاذ المشرف أن يحدد أياً من هذه المصادر أنفع له في تحقيق هدفه.

وتأتي المكتبة وما تحويه من كتب في مقدمة هذه المصادر. فضلاً عن ذلك توجد الوسائل الميدانية والوسائل التكنولوجية الحديثة التي يتبعها الباحث للحصول على المعلومات والبيانات اللازمة لبحثه. وسوف نتناول كل هذه المصادر بالتفصيل كما يلي:

[1]) د/ جابر جاد نصار: مرجع سابق، ص 96.

قبل الدخول الفعلي في مرحلة الكتابة، يجب على الباحث أن يعرف القواعد الأساسية للكتابة. ولذلك سوف نقسم هذا المبحث إلى مطلبين: نتناول في المطلب الأول: قواعد الكتابة. وفي المطلب الثاني: مراحل الكتابة.