منازعات الملكية الفكرية
قواعد وإجراءات تسوية المنازعات
تناولت المادة (64) من اتفاقية التربس قواعد تسوية المنازعات، فأوجبت الفقرة الأولى منها تطبيق المادتين22، 23من اتفاقية جات 1994م على المشاورات وتسوية المنازعات التي تنشب بين الدول الأعضاء بحسب ما جاء من تفصيل في مذكرة التفاهم بشأن تسوية المنازعات، ما لم ينص على خلاف ذلك في الاتفاقية، وهذا النظام يشمل ويستغرق ويطور نظام تسوية المنازعات السابق المنصوص عليه في المادتين 22، 23 من اتفاقية جات 1947م، وسوف نوضح ذلك فيما يلي:
معالجة عيوب نظام تسوية المنازعات في ظل جات 1947م
عالج النظام الجديد لتسوية المنازعات مثالب النظام القديم الذي كان معمولاً به في ظل جات 1947م؛ فعلى الرغم من أن اتفاقية جات 1947م كانت تتضمن في مادتيهـا 22،23 أحكاما لتسوية المنازعات بين الدول المتعاقدة إلا أن هذه الأحكام اتسمت بالقصور وعدم الفاعلية، وكان من أهم عيوب النظام القديم بطء الإجراءات، وسهولة عرقلتها، وعدم وجود قواعد تسمح بطرح النزاع على درجة أعلى من درجات التقاضي (الاستئناف)؛ فضلا عن غياب الطابع الإلزامي للأحكام وعدم وجود الهيئة التي تشرف على تنفيذها، وقد فتح هذا النظام الباب للدول الأطراف لتبادل العقوبات التجارية والإجراءات العقابية الانفرادية وهذا ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد تلافى النظام الجديد لتسوية المنازعات وفقا للقواعد والإجراءات الواردة في مذكرة التفاهم هذه العيوب، إذ تمر المنازعات بثلاثة مراحل متدرجة تبدأ بالمشاورات، ثم تشكيل فريق التحكيم، ثم الاستئناف، وقد حددت مذكرة التفاهم لكل مرحلة منها فترة زمنية معينة ومرنة في ذات الوقت، بما يضمن تسوية المنازعات في مدة قصيرة نسبياً؛ ولم يعد من الممكن لأي دولة أن تعرقل إجراءات تسوية المنازعات، حيث أن موافقة جهاز تسوية المنازعات على طلبات تشكيل فرق التحكيم وكذلك اعتماده لتقارير فرق التحكيم وما جاء بها من نتائج وتوصيات بالإضافة إلى تقارير جهاز الاستئناف الدائم تتم تلقائيا ما لم يقرر جهاز تسوية المنازعات بإجماع الآراء عدم اعتمادها، وهذا ما يعرف بقاعدة الإجماع السلبي التي استحدثها النظام الجديد؛ كما أنشئت درجة جديدة من درجات التقاضي، وأجازت مذكرة التفاهم لأطراف الخصومة استئناف تقارير فرق التحكيم أمام جهاز الاستئناف الدائم، وهو جهاز لم يكن له وجود في ظل الوضع القديم.
مزايا نظام تسوية المنازعات في ظل التجارة العالمية
جات47 كانت نتيجة لاتفاقية الجات التي هي مجرد ترتيب تعاقدي مطبق عن طريق بروتوكول ذي أمد محدد عكس تسوية المنازعات في ظل منظمة التجارة العالمية التي جاءت إلى الوجود نتيجة لمعاهدة دولية هي اتفاق منظمة التجارة العالمية، وجاء التفاهم بشأن تسوية المنازعات كجزء لا يتجزأ من الاتفاقيات المنبثقة عن اتفاقية منظمة التجارة العالمية، وبالتالي فإن الأحكام الواردة في التفهم بشأن تسوية المنازعات تتمتع بذات الوضع القانوني الذي تتمتع به سائر أحكام الاتفاقيات متعددة الأطراف، وهي التي تكون جميعا منظمة التجارة العالمية.
أما نظام تسوية المنازعات في ظل جات 1947م فقد يطبق علي العكس من ذلك بصفة خاصة دون أي أساس تنظيمي وكان وجوده قائما علي حسن النية من جانب الأطراف، ومما يؤكد إرساء الطابع المؤسسي لنظام تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية إنشاء جهاز مستقل لتسوية المنازعات، فجهاز تسوية المنازعات هو في الواقع المجلس الأعلى لمنظمة التجارة العالمية عندما يقوم بوظائفه في مجال تسوية المنازعات في ظل تفاهم تسوية المنازعات، ومن ثم فإن تشكيل فرق التحكيم وما يتبع ذلك من إجراءات ليس إجراء يتخذ بصفة خاصة كما كانت عليه الحال في ظل الجات، وإنما هو ممارسة للوظائف التي تشتمل عليها ولاية ذلك المجلس في ظل اتفاقية منظمة التجارة العالمية، وقد أوضح التفاهم بشأن تسوية المنازعات أن منظمة التجارة العالمية لها في تسوية المنازعات نظام عنصري مركزي في توفير الأمن والقدرة علي التنبؤ، وهو نظام تجاري متعدد الأطراف.
منع المنازعات وتسويتها:
تقتضى المادة 64 من اتفاقية تربس- تطبيق أحكام المادتين22 و23 من الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة لعام 1994م وحسبما تفصل مذكرة التفاهم بشأن تسوية المنازعات فإن الخلافات بين الحكومات حول الالتزام بأحكام تربس، سواء كان ذاك في مجال القواعد الجوهرية أو في مجال الإنفاذ، تخضع لنظام تسوية المنازعات المجاز لمنظمة التجارة العالمية، ويعتبر هذا من أهم التجديدات في مجال قانون الملكية الفكرية، ذلك أن القانون الدولي الحالي لا يوفر أي سبل عملية يمكن أن تلجأ لها أي حكومة تعتقد بعدم إيفاء حكومة أخرى بالتزاماتها.
وكما موضح في خارطة تسوية المنازعات الخاصة بمنظمة التجارة العالمية، تحتفظ الإجراءات المجازاة لتسوية المنازعات بالملامح الأساسية لآلية تسوية المنازعات للاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة، والتي تنص على رفع النزاع بين البلدين الأعضاء، في حالة الفشل في تسويته عن طريق المفاوضات، إلى هيئة تتألف من3 إلى5 أشخاص تقوم بالاستماع إلى أطراف النزاع والحصول على أي آراء تراها مفيدة وتتوصل إلى قراراتها حول السلامة القانونية للتدابير موضع الخلاف، ويعتبر العامل الحاسم الأساسي الذي تمت إضافته هو (استبعاد الوسائل التي يتمكن بموجبها الطرف المدعى عليه أو الخاسر من تأخير إجراءات التسوية أو عرقلتها)، وقد تم تحقيق ذلك بفرض مهل زمنية منضبطة للمراحل المختلفة لإجراءات تسوية المنازعات من جانب، وبإلغاء الأمر الذي يشترط اتخاذ قرارات هيئة تسوية المنازعات بالإجماع، فيما يتعلق باعتماد تقارير الهيئة أو أي تعليق محتمل للامتيازات، من جانب آخر. وكانت القرارات المماثلة تقتضى في السابق الإجماع الإيجابي، وكان ذلك يعنى قبول الطرف الخاسر ضمنياً بها، وكان إحراز ذلك يستغرق بعض الوقت عادة، كما تم إلغائها تماماً في حالات قلائل؛ بموجب النظام الجديد، تعتبر تقارير الهيئات والقرارات المتعلقة باحتمالات الرد بالمثل مجازة، إلا إذا كان هنالك إجماع ضد إجازتها، وعلى هذا النحو أصبحت طبيعة النظام قضائية أكثر مما كانت عليه في النظام السابق، وعلى ضوء طبيعة قرارات الهيئة التي أضحت أكثر إلزاماً وتلقائية، فقد تم وضع أحكام للجوء إلى هيئة الاستئناف والتي تعتبر قراراتها نافذة بمجرد إجازتها من قبل هيئة تسوية المنازعات، بموجب أمر اتخاذ القرار ذاته.
الطابع الأخلاقي لتسوية المنازعات
لقد أرست الشريعة الإسلامية منذ أكثر من أربعة عشر قرناً قواعد نظام حقوقي يستمدّ قوته وشرعيته من الأعراف والفضائل الأخلاقية التي كانت سائدة (قبل الإسلام) ومن الشريعة المحمدية التي أقرّت الأعراف الصحيحة التي سبقتها كنصرة المظلوم المتمثل في حلف الفضول آنذاك، وحبس النساء اللاتي يأتين الفاحشة في البيوت وشبيهه في القوانين المعاصرة المعروف "بالإقامة الجبرية" وغيرها، ونبذت الفاسد منها وحرّمته كوأد البنات والظهار وغيرها، ثم أضافت إليها جديدها بتأصيل قوانين جديدة في مجتمع المدينة، وقد تقدّمت تلك الأعراف والقوانين على القانون الروماني بحسب ما أقرّته المؤتمرات الدولية للقانون الدولي المقارن، ولا سيما مؤتمر لاهاي لعام 1937. وقد عبّر عن ذلك السيد محمد حسين فضل الله بقوله: “إنَّ أساس هذا الفكر الحقوقي ليس غربيّاً، فقد استند في تطوّره إلى الفكر الإسلامي، ثمّ بعد ذلك استغل الجوهر ورمى لنا بالقشرة.
الطابع الأخلاقي لسلوك الأفراد، في أي مجتمع لا يتأتي إلا من المشاركة في الشئون العامة وفي حياة الدولة، ومن التزام القانون واحترامه، ومن التزام القانون الأخلاقي غير المكتوب، الذي تقوم عليه العلاقات الاجتماعية، ونعني بالطابع الأخلاقي.
التكامل بين الوظيفتين الخلقية والتشريعية
وظيفة الأخلاق في علاقتها بالتشريع، لا تقف عند كونها مصدراً ومعياراً وهدفاً للتشريعات والأحكام القانونية والقضائية، بل هي ذات وظيفة عملية متلاحمة ومتكاملة مع وظيفة التشريع والقضاء. وفي كثير من الحالات، تشكل الأخلاق البديل الأرقى الأمثل عن القوانين والأحكام القضائية والتدابير السلطانية. فحيثما سادت مكارم الأخلاق وقوي تأثيرها، قَلَّت الخصومات والمنازعات، وقلت الانحرافات والجنايات. وحتى ما ينفلت ويقع منها تتأتى معالجته وتجاوزه بيسر، ودونما حاجة إلى شَغل الولاة والقضاة والشرط به. وحتى في حال الاحتكام إلى التشريعات والمحاكم، فإن الفرق يكون كبيراً بين التقاضي المصحوب بالأخلاق الحميدة، أو ببعض منها، والتقاضي المتجرد منها، فضلا عن التقاضي المتسلح بمساوئها ورذائلها، كالحقد والمكر والتزوير وسوء الظن والإفراط في العداوة والانتقام… ولذلك كان من علامات المنافق، أنه "إذا خاصم فجر"، كما جاء في الحديث عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ ” أربع من كنَّ فيه كان منافقا أو كانت فيه خصلة من أربعة كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدَّث كذَب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" ومعنى هذا أن المؤمن صاحب الخلق، حتى إذا تنازع أو تخاصم، ظل معتدلا ومؤدبا في خصومته. من أهم خصائص نظام تسوية المنازعات أنه لا يهدف إلى فرض عقوبة على الدولة العضو التي تخالف أحد التزاماتها الدولية المنصوص عليها في الاتفاقيات المشمولة (والمقصود بذلك الاتفاقيات متعددة الأطراف)، بل يهدف بالدرجة الأولى إلى تصحيح الأوضاع المخالفة، بحيث ينتهي الأمر بأن توافق النظام القانوني للدولة المعنية مع التزاماتها الدولية، وقد قررت المادة (3 /7) من مذكرة التفاهم بشأن تسوية المنازعات أن توصل أطراف النزاع إلى تسوية ودية أفضل من التقاضي وفقا لقواعد وإجراءات تسوية المنازعات المنصوص عليها في مذكرة التفاهم، أو الاستمرار في التقاضي، ونصت المادة (3/7) على هذا الطابع الأخلاقي لتسوية المنازعات بقولها:
"يجب على كل عضو قبل رفع قضية ما أن ينظر بحكمه في جدوى المقاضاة وفق هذه الإجراءات، وهدف آلية تسوية المنازعات هو ضمان التوصل إلى حل إيجابي للنزاع والأفضل، طبعاً هو التوصل إلى حل مقبول لطرفي النزاع ومتوافق مع الاتفاقات المشمولة، وعند عدم التوصل إلى حل متفق عليه يكون أول أهداف آلية تسوية المنازعات هو عادة ضمان سحب الإجراءات المعنية إذا ما وجد أنها تتعارض مع أحكام أي من الاتفاقات المشمولة، ولا يجوز اللجوء إلى تقديم التعويض إلا إذا تعذر سحب التدبير فوراً على أن يكون التعويض إجراءا مؤقتا في انتظار سحب الإجراء الذي يتعارض مع اتفاق مشمول، والسبيل الأخير الذي يوفره هذا التفاهم للعضو المطالب بتطبيق إجراءات تسوية المنازعات هو إمكانية تعليق تطبيق التنازلات أو غيرها من الالتزامات بموجب الاتفاقات المشمولة على أساس تمييزي تجاه العضو الآخر، رهناً بترخيص الجهاز باتخاذ هذه الإجراءات".
من أبرز ما جاءت به جولة أرجواي، أحداث نظام شبه متكامل لتسوية النزاعات الدولية التجارية. في إطار منظمة التجارة العالمية، إذ حققت تسوية النزاعات في النظام الجديد باتفاقية مستقلة ومرتبطة في الوقت نفسه باتفاقية التجارة العالمية بسبب إدخال تسوية النزاعاتDispute settlement understanoling packagedeal ضمن نظام الصفة الشاملة ،والواقع أن نظام تسوية النزاعات الذي استحدثه نتائج جولة أرجواي لم يأت من عدم، وإنما كان ثمرة تطور طويل، لكيفية تسوية النزاعات في إطار GATT 47، الذي يميز النظام الجديد لتسوية النزاعات في إطار منظمة التجارة العالمية أنه قلب بعض القواعد التي كانت سائدة فيGAtt 47 مما أعطي دفعا قويا لتغليب النظام القانوني المحكم علي الممارسات التحكيمية التي كانت تساعد علي بروزها النصوص القانونية GATT47 والملاحق والتفهمات والتقنيات والبروتوكولات التي تم الاتفاق عليها خلال جولات الجات المتعاقبة التي سبقت جولة أرجواي وقد أدت الآلية الجديدة لتسوية النزاعات في منظمة التجارة العالمية دوراً مهماً في تطوير الوظيفة القضائية الدولية كما نجحت في استبعاد كثيراً من أوجه التحكمية لصالح الأحكام في نظام تسوية النزاعات، ولكنها لم تتخلص نهائيا من التحكمية التي بقيت موجودة في أحد أهم تسوية النزاعات من الناحية الفعلية.
ومن الجدير بالذكر أن اتفاقية التربس تعتبر أول اتفاقية في مجال الملكية الفكرية تضع قواعد تفصيلية لتسوية المنازعات بين الدول الأطراف، إذ لا يوجد مقابل لهذه القواعد التفصيلية الواردة في مذكرة التفاهم، التي أحالت إليها اتفاقية التربس، في أي اتفاقية دولية أخرى من الاتفاقيات التي أبرمت في موضوعات الملكية الفكرية.
وتجدر الإشارة في هذا الخصوص إلى المادة 28 من اتفاقية باريس قد وضعت نظاماً هشاً لتسوية المنازعات بين الدول الأعضاء في اتحاد باريس بشأن تفسير أو تطبيق الاتفاقية؛ إذ أجازت للدول؛ إذا لم يتم تسوية النزاع وديا فيما بينها، أن تعرض النزاع على محكمة العدل الدولية، وهذا ما تقرره أيضا المادة 33 من اتفاقية برن لحماية المصنفات الأدبية والفنية، وقد ثبت عمليا فشل هذا النظام بسبب عدم وجود آلية تضمن تنفيذ ما تقضى به محكمة العدل الدولية، إذ لم تلجأ إلى محكمة العدل الدولية أي دولة من الدول المتعاقدة في اتفاقيتي باريس وبرن حتى الآن على حد علمنا، وقد عرضت على جهاز تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية عدة منازعات نشبت بين الدول الأعضاء تتعلق بتطبيق اتفاقية التربس، بلغ عددها حتى الآن 25 منازعة، وقد تم تسوية بعض هذه المنازعات بالاتفاق المتبادل بين أطرافها على حل ودي، بينما لازالت بعض المنازعات الأخرى محل نظر ولم يتم تسويتها بعد، وتم الفصل بصفة نهائية في بعض المنازعات الأخرى بعد أن اعتمد جهاز تسوية المنازعات ما جاء بتقرير فرق التحكيم أو تقرير جهاز الاستئناف من نتائج وتوصيات.